فصل: (الآية التاسعة عشرة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ}: نصب هديا على الحال أو البدل من «مثل»، وبالغ الكعبة صفة لهدي، لأن الإضافة غير حقيقة.
والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء، فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة، والنحر هنالك، والإشعار والتقليد. ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها.
وإنما أراد الحرم، ولا خلاف في هذا.
{أَوْ كَفَّارَةٌ}: معطوف على محل من النعم، وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف.
{طَعامُ مِسْكِينٍ}: عطف بيان لكفارة أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف.
{أَوْ عَدْلُ ذلِكَ}: معطوف على طعام، وقيل: هو معطوف على جزاء، وفيه ضعف! والجاني غير مخير بين هذه الأنواع المذكورة، وعدل الشيء: ما عادله من غير جنسه.
{صِيامًا}: منصوب على التمييز.
وقد قدّر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام، وقد ذهب إلى أن الجاني مخيّر بين هذه الأنواع المذكورة جمهور العلماء.
وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي.
والعدل بفتح العين وكسرها، لغتان وهما المثل، قاله الكسائي.
وقال الفرّاء: عدل الشيء، بكسر العين: مثله من جنسه، وبفتح العين: مثله من غير جنسه. ومثل قول الكسائي قال البصريون.

.[الآية التاسعة عشرة]:

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ: الخطاب لكل مسلم، أو للمحرمين خاصة.
وصيد البحر: ما يصاد فيه.
والمراد بالبحر هنا: كل ماء يوجد فيه صيد بحري، وإن كان بئرا أو غديرا.
وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ: الطعام اسم لكل ما يطعم، وقد تقدم. وقد اختلف في المراد به هنا، فقيل: هو ما قذف به البحر وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين. وقيل: طعامه ما ملح منه وبقي، وبه قال جماعة، وروي عن ابن عباس.
وقيل: طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه سائر ما فيه من النبات وغيره، وبه قال قوم.
وقيل: المراد به ما يطعم من الصيد، أي ما يحل أكله، وهو السمك فقط، وبه قالت الحنفية.
والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم، وهو تكلف لا وجه له. ونصب متاعا على أنه مصدر، أي متّعتم به متاعا، وقيل: مفعول به مختص بالطعام، أي أحل لكم طعام البحر متاعا، وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير بل إذا كان مفعولا له كان من الجميع، أي أحل لكم مصيد البحر وطعامه تمتيعا لكم، أي لمن كان مقيما منكم يأكله طريا. وللسيارة أي المسافرين منكم، يتزودونه، ويجعلونه قديدا. وقيل: السيارة:
هم الذين يركبونه خاصة.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا أي حرم عليكم ما يصاد في البر ما دمتم محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان المصيد حلالا، وإليه ذهب الجمهور، إن كان الحلال صاده للحرم، لا إذا كان لم يصده لأجله، وهو القول الراجح، وبه يجمع بين الأحاديث، وقيل: إنه يحل مطلقا، وإليه ذهب جماعة، وقيل: يحرم عليه مطلقا، وإليه ذهب آخرون.
وقد بسط الشوكاني هذا في «شرحه للمنتقى».

.[الآية العشرون]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: أي ألزموا أنفسكم واحفظوها. كما تقول:
عليك زيدا أي الزمه.
{لا يَضُرُّكُمْ}: قرئ بالجزم على أنه جواب الأمر الذي يدل عليه اسم الفعل.
وقرأ نافع بالرفع على أنه مستأنف، أو على أن ضم الراء للاتباع. وقرئ بكسر الضاد. وقرئ: لا يضيركم.
{مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}: يعني لا يضركم ضلال من ضل من الناس إذا اهتديتم للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن من تركه- مع كونه من أعظم الفروض الدينية- فليس بمهتد، وقد قال اللّه سبحانه: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررا يسوغ له معه الترك.
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وصححه- والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني، وأيضا في «المختارة» وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد اللّه، وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها في غير مواضعها!! وإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب».
وأخرج الترمذي- وصححه- وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم- وصححه- وابن مردويه والبيهقي في «الشعب» عن أبي أمية الشعباني قال: «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما واللّه لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم».
وفي رواية عن عامر الأشعري في هذه الآية، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أين ذهبتم؟! إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم»، رواه أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان، تأمرون بالمعروف، فيصنع بكم كذا وكذا- أو قال: فلا يقبل منكم-، فحينئذ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ... الآية.
وفي لفظ عنه قال: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم».
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال: في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال نبي اللّه: «لم يجئ تأويلها لا يجئ تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام».
والروايات في هذا الباب كثيرة. وفيما ذكرنا كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجميع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

.[الآيات: الحادية والثانية والثالثة والعشرون]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)}.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: قال مكيّ: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه- رحمه اللّه- يعني من كتاب مكي.
قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.
قال السعد في حاشيته على «الكشاف»: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا، ونظما، وحكما.
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ: إضافة الشهادة في البين توسعا لأنها جارية بينهم وقيل: أصله شهادة ما بينكم، فحذفت (ما) أو أضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} [سبأ: 33]، ومنه قوله تعالى: {هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78].
قيل: والشهادة هنا بمعنى الوصية، وقيل: بمعنى الحضور للوصية.
وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم للّه حكما يجب فيه على الشاهد يمين.
واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود.
{وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام، ولكمال تمكن الفاعل عند النفس.
حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرف لحضر، أو للموت، أو بدل من الظرف الأول.
اثْنانِ: خبر شهادة على تقدير محذوف، أي شهادة اثنين، أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان، على تقدير أن يشهد اثنان. ذكر الوجهين أبو علي الفارسي.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: صفة للاثنين، وكذا منكم، أي كائنان منكم، أي من أقاربكم.
أَوْ آخَرانِ معطوف على اثنان.
ومِنْ غَيْرِكُمْ صفة له، أي كائنان من الأجانب. وقيل: إن الضمير في مِنْكُمْ للمسلمين وفي غَيْرِكُمْ للكفار، وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد اللّه بن عباس وغيرهما.
فيكون في الآية، دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر، في خصوص الوصايا، كما يفيده النظم القرآني ويشهد له سبب النزول، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين، فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته، حلفا بعد العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم به حينئذ بشهادتهما.